افتتاحية

جيراندو..يكذبها ويصدّقها

في عالم أصبح فيه الخبر أسرع من الضوء، وأصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي ساحة حرب بين الحقيقة والزيف، يظهر أشخاص جعلوا من الكذب مهنة، ومن التضليل صناعة مربحة، ومن العبث بعقول الناس وسيلة لتحقيق أهدافهم. هشام جيراندو واحد من هؤلاء الذين أدركوا أن الإثارة تصنع المشاهدات، وأن نظرية المؤامرة تستهوي العقول، وأن ترويج الأكاذيب قد يكون أسرع طريق نحو الشهرة والمال، فاحترف الكذب، وأدمن التلاعب، ووجد في يوتيوب منصة مثالية لتحويل الافتراء إلى محتوى رقمي تتداوله فئات تبحث عن الإثارة أكثر مما تبحث عن الحقيقة.

منذ أن ظهر على الساحة الرقمية، لم يكن هدفه تقديم محتوى نقدي أو تحليلي مبني على الوقائع، بل كان يسعى إلى استغلال الأحداث لبناء قصص درامية، يغذي بها جمهوره المتعطش لكل ما هو صادم، حتى لو كان ذلك على حساب المصداقية والواقع. لم يكتفِ جيراندو بالتلاعب بالمعلومات، بل صنع روايات كاملة لا تمت للحقيقة بصلة، وقدم نفسه كصوت “الحقيقة الضائعة”، رغم أن كل ما يقوله لا يستند إلى أي دلائل.

لم يتردد في نشر أخبار زائفة حول الوضع السياسي في المغرب، مدعيًا أنه يمتلك معلومات حصرية حول “انقلاب مزعوم” ضد الملك محمد السادس، متحدثًا عن صراعات خفية داخل القصر، ومروجًا لروايات أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. وحين لم يجد صدى لهذه الأكاذيب، لجأ إلى أساليب أكثر عبثية، فتحدث عن “تعويذات سحرية” ألقيت على الملك، في محاولة لإضفاء طابع غامض وسينمائي على ادعاءاته، متناسيًا أن المغاربة أكثر وعيًا من أن يقعوا في فخ هذه الخرافات.

لكن الكذب لم يكن مجرد وسيلة للفت الانتباه، بل تحول إلى سلاح يستخدمه للابتزاز، كشفت التحقيقات أن جيراندو لم يكن مجرد ناقل للمغالطات، بل كان يستخدم قناته للضغط على شخصيات ومسؤولين، محاولًا ابتزازهم مقابل إسكات حملاته التشهيرية ضدهم، لم يكن هدفه كشف الفساد كما يدّعي، بل تحقيق مكاسب شخصية، في تناقض صارخ بين خطابه الشعبوي وواقعه الانتهازي.

الأخطر من ذلك، أنه لم يكتفِ بجعل قناته منصة للكذب، بل أدخل حتى أفراد عائلته في هذه الدوامة. كشفت التحقيقات عن تورط شقيقته وزوجها وابنتهما القاصر في عمليات تشهير وابتزاز، حيث استُخدمت شرائح هاتفية مسجلة بأسماء مستعارة لإرسال تهديدات وممارسة الضغط على شخصيات معينة. لم يكن الأمر مجرد تجاوز فردي، بل كان جزءًا من منظومة كاملة يديرها جيراندو لنشر الفوضى والإساءة لمؤسسات الدولة.

لم تتوقف ممارساته عند حد الشائعات والابتزاز، بل تعدتها إلى محاولات التأثير على الرأي العام خارج المغرب، حيث تبنى خطابًا يهاجم فيه الدولة بكل الوسائل، متماشيًا مع أجندات معادية للمملكة. لم يكن ذلك بدافع حرية التعبير كما يحاول أن يوهم جمهوره، بل كان نتيجة ارتباطه بجهات خارجية تسعى لاستغلال صوته في حربها ضد استقرار المغرب، محولًا نفسه إلى أداة في يد من يطمحون إلى زعزعة الأمن والاستقرار.

اليوم، وبعد أن سقطت الأقنعة، يجد هشام جيراندو نفسه محاصرًا بحقائق لا يمكن إنكارها. المحاكم الكندية بدأت في اتخاذ إجراءات قانونية ضده، والأدلة تتراكم حول تورطه في أعمال غير مشروعة، والمغاربة أصبحوا أكثر وعيًا بأساليبه. لم يعد بإمكانه الاختباء وراء الشعارات الزائفة، ولم يعد بإمكانه خداع جمهوره بنفس الأساليب المبتذلة. مسلسل الكذب الذي بناه لسنوات بدأ ينهار، لأن الحقيقة، مهما تأخرت، تجد دائمًا طريقها إلى النور.