الأمن المعلوماتي..درعنا المفقود

في قلب التحول الرقمي المتسارع الذي يشهده المغرب، حيث تتشابك خيوط حياتنا الإدارية والمالية مع شبكات التكنولوجيا الحديثة، يبرز شبح مقلق: هشاشة أمننا المعلوماتي.
هذا الضعف لم يعد مجرد احتمال نظري، بل أصبح واقعًا مؤلمًا تجسّد في سلسلة من الاختراقات التي استهدفت مواقع رسمية ومؤسسات استراتيجية خلال السنوات الأخيرة، معلنةً عن ثغرات خطيرة في حصننا الرقمي.
لم يعد الأمن السيبراني رفاهية أو ترفًا مستقبليًا، بل ضرورة وطنية ملحة تفرضها طبيعة العصر. فالهجمات الإلكترونية لم تعد مجرد عبث من قراصنة هواة، بل تحولت إلى عمليات احترافية ومنظمة، تُوجه فيها أصابع الاتهام في كثير من الأحيان إلى جهات خارجية ذات أجندات استخباراتية أو تخريبية، تسعى للنيل من استقرار المملكة ومصالحها.
الأكثر إثارة للقلق أن المغرب يُصنّف كثالث أكثر الدول الإفريقية تعرضًا للهجمات الرقمية، وفق تقارير حديثة تدق ناقوس الخطر. هذا التصنيف المقلق يضع المملكة في صميم دائرة الاستهداف السيبراني، ويدعو إلى تحرك عاجل واستباقي لمواجهة هذه التهديدات المتصاعدة التي تنخر في أمننا الرقمي.
لقد باتت الاختراقات المتكررة التي طالت مواقع وزارات ومؤسسات عمومية، بل وحتى كيانات ذات سيادة، شاهدًا حيًا على مدى هشاشة بنيتنا الرقمية. هذه الهجمات، وإن اختلفت في أساليبها وأدواتها، إلا أنها تُجمع على كشف ثغرات تقنية ونقص حاد في آليات الرصد والحماية، مما يستوجب وقفة جادة لتقييم الوضع وتدارك الخلل قبل فوات الأوان.
صحيح أن الدولة أطلقت مبادرات محمودة، كإحداث المديرية العامة لأمن نظم المعلومات ومشاريع تحديث الأنظمة الإلكترونية، إلا أن الواقع المرير يُظهر فجوة زمنية واضحة في بناء قدرات وطنية راسخة في مجال الأمن السيبراني. هذا التأخر يتجلى بوضوح سواء على مستوى الكفاءات البشرية المتخصصة أو على صعيد البنية التحتية الرقمية القادرة على مقاومة الهجمات المتطورة.
وفي محاولة لتدارك هذا التأخر، أعلنت الحكومة المغربية في سبتمبر 2024 عن استراتيجية “المغرب الرقمي 2030″، وهي خطة طموحة تسعى إلى تحويل المملكة إلى مركز تكنولوجي إقليمي واعد. تستثمر هذه الاستراتيجية 11 مليار درهم (حوالي 1.1 مليار دولار) بين 2024 و2026، وتركز على خلق فرص العمل الرقمية، وتكوين الكفاءات، ودعم الابتكار، في توجه إيجابي لا يمكن إنكاره.
وفي قلب هذه الرؤية الرقمية، تم إطلاق الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني 2030 في يوليو 2024، والتي ترتكز على أربعة محاور رئيسية تهدف إلى بناء حصن رقمي متين. تشمل هذه المحاور: تعزيز الحوكمة، حماية الفضاء السيبراني، تطوير القدرات البشرية، والتعاون الدولي، وهي خطوات تحمل في طياتها آمالًا كبيرة لتأمين مستقبلنا الرقمي.
ويُضاف إلى ذلك توقيع مذكرة تفاهم واعدة مع مجموعة “تاليس” الفرنسية، التي تستثمر أكثر من 350 مليون درهم في مجال الأمن السيبراني، مما سيساهم في خلق فرص عمل ذات قيمة مضافة عالية، وتعزيز الخبرات الوطنية في هذا المجال الحيوي.
ورغم أهمية هذه الجهود والاستثمارات، إلا أن الأمر لا يزال يتطلب تسريع وتيرة العمل وتعزيز القدرات الوطنية في مجال الأمن السيبراني بشكل جذري. فلا يمكن أن يظل أمننا المعلوماتي رهينة ردود أفعال متأخرة بعد كل هجوم، بل يجب أن يُبنى على استراتيجية وطنية شاملة تستشرف المخاطر وتُحصّن فضاءنا الرقمي.
إن المعارك القادمة لن تُحسم فقط في ساحات القتال التقليدية، بل في دهاليز الفضاء السيبراني، حيث تُصبح المعلومة السلاح الأقوى، وتُغدو حماية “درعنا الرقمي” ضرورة وجودية لا تحتمل التأجيل.