راحلون لا محالة

لماذا نهاب الموت؟ تتملكنا الرهبة لمجرد التفكير في الرحيل، حتى لو لم يكن رحيلنا نحن، بل الأحباب والأقرباء. نخاف الرحيل، نخاف الفقد، نخاف الفجأة، نخاف أن يُغلق الستار دون إنذار.
هل الخوف نابع من شغفنا بالحياة ورفضنا ترك هاته المعشوقة التي تجود علينا بالغبطة والسرور؟ لا أظن. فحتى البؤساء منا، أولئك الذين لم تبتسم لهم الحياة يومًا، يجتاحهم الخوف كما يجتاح مدلليها، وكأننا جميعًا، على اختلاف حظوظنا، نخشى شيئًا أعمق من مجرد نهاية.
ربما تفكرون الآن في الجانب الديني للأمر. نحن لسنا مستعدين للموت، هذا ما نقوله في أعماقنا، حتى دون أن نهمس به. ينقصنا الكثير. فرائض تخلفنا عنها، وسنن تركناها، وذنوب أثقلت ظهورنا، وحسنات نطمع في إضافتها إلى الرصيد قبل ذلك اللقاء. حسنًا، لنفترض أن هذا هو السبب، فمتى نستعد إذًا؟ وهل نضمن أن يُمهلنا الوقت؟ أن يمنحنا العمر فرصة ترتيب حقائب الرحيل؟
الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا يختلف عليها اثنان. أنت ميت لا محالة، ومع ذلك، نعيش وكأننا مخلدون. نخطط للغد، نحلم بأعوام قادمة، نستثمر الوقت والجهد والمال، نبني البيوت، نكدّ في العمل، نتعلق بأشياء فانية، وننسى، أنا أقول أننا نتناسى، أن كل ذلك يمكن أن ينطفئ في لحظة.
لا أعتقد أننا نهاب الموت بذاته، بل نهاب ما قد يسرقه منا: الأحلام المؤجلة، الكلمات التي لم تُقال، المشاعر التي لم تُعاش، العناق الذي لم يُمنح، والغفران الذي تأخر كثيرًا. نخاف أن يُباغتنا الموت ونحن في منتصف جملة، في منتصف طريق، في منتصف حياة. نخاف أن نُنسى، أن نصبح صفحة مطوية في ذاكرة من نحب، أو أن نرحل ولم نترك أثرًا يستحق أن يُروى.
لكن، ربما آن الأوان لنغير نظرتنا. أن نصادق الموت لا أن نخشاه، أن نؤمن به لا أن نرتعب منه. أن نجعل من حتميته دافعًا للصدق، للصفاء، للإحسان. أن نعيش كل يوم وكأنه الأخير، لا من باب الحزن، بل من باب الامتنان. أن نُحب بعمق، أن نُسامح بسهولة، أن نُعطي دون حساب، وأن نترك في كل قلب نمرّ به شيئًا من النور.
فالموت لا يُرعب من عاش بصدق. بل يُتمم فصلاً في حكاية كُتبت بكامل الوعي.
وكل وعي بالموت… حياة.