أحمد البواري..الدق والسكات

في زحمة الخطابات والشعارات السياسية، وفي زمن يسوّق فيه البعض الوعود أكثر من الأفعال، يبرز نموذج مختلف لمسؤول حكومي آثر العمل في صمت عن ضجيج الأضواء. أحمد البواري، وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، واحد من هؤلاء الذين اختاروا “الدق والسكات” نهجاً لتسيير قطاع حيوي تتوقف عليه معيشة ملايين المغاربة.
ينتمي أحمد البواري إلى حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي يقود التحالف الحكومي الحالي. ومنذ توليه المنصب خلفاً لمحمد صديقي، انصرف البواري إلى العمل الميداني، واضعاً نصب عينيه التحديات المناخية، وضغوطات الأمن الغذائي، ومتطلبات التنمية القروية. لم يسعَ إلى الكاميرات، ولم يطارد العناوين البراقة، لكنه ترك أثراً ملموساً في عدة جبهات، وفي وقت قياسي.
الجيل الأخضر.. رهانه الأكبر
أبرز ما بصم عليه الوزير البواري هو الدفع بقوة باستراتيجية “الجيل الأخضر 2020-2030″، التي تمثل خارطة طريق جديدة للفلاحة المغربية. هذه الاستراتيجية تضع المواطن الفلاحي في قلب التنمية، من خلال تمليك الأراضي، وتكوين الشباب، وتطوير المقاولة الفلاحية، إلى جانب تعزيز الرقمنة في الخدمات الزراعية.
الوزارة في عهد البواري قامت بإنشاء وتجهيز 12 مركزًا جهويًا للشباب المقاولين في الفلاحة والصناعات الغذائية، وأطلقت منصة “Chabab Agri” لتسهيل الإجراءات الإدارية، وتوجيه الشباب في مشاريعهم. ولأول مرة، بدأنا نرى جيلاً جديداً من الفلاحين الشباب يتلقون الدعم والتأطير، ويؤسسون تعاونيات ومشاريع ذات أثر اقتصادي واجتماعي محلي.
الزرع المباشر.. فلاحة مقاومة للتغيرات المناخية
في مواجهة الجفاف وتراجع التساقطات، أطلق البواري برنامجاً طموحاً للزرع المباشر، يستهدف تغطية 260 ألف هكتار خلال الموسم الفلاحي 2024-2025، مع أفق بلوغ مليون هكتار بحلول 2030. هذا البرنامج يراهن على تحسين مردودية الحبوب، وتقليص كلفة الإنتاج، والحفاظ على التربة والمياه، وكلها عناصر أساسية في فلاحة المستقبل.
الأمن الغذائي.. أرقام تتحدث
تحت إشراف البواري، تحققت نتائج لافتة في القطاع. صادرات البواكر الطرية ارتفعت إلى 420 ألف طن حتى نونبر 2024، أي بزيادة 55% مقارنة بالسنة السابقة. أما صادرات الحوامض، فقد نمت بنسبة 91% لتبلغ 120 ألف طن. هذا التحسن جاء رغم الإكراهات المناخية واللوجستية، ما يعكس قوة المنظومة الإنتاجية والقدرة على ولوج الأسواق العالمية.
تحلية المياه.. فلاحة بمياه البحر
في سوس، المنطقة التي عانت لسنوات من العطش، حمل البواري مشروعاً استراتيجياً يتمثل في تحلية مياه البحر، لإنتاج 350 مليون متر مكعب، منها 250 مليون م3 مخصصة للفلاحة. هذا المشروع الذي كان مجرد حلم، أصبح واقعاً بفضل التنسيق بين الوزارة والفلاحين والمستثمرين المحليين. إنه مشروع لا يوفر فقط الماء، بل يضمن الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لعشرات الآلاف من الأسر.
زيارات ميدانية..الوزير الذي يلبس “الصبّاط”
ما يميز البواري عن غيره، هو حضوره الميداني الكثيف. من إقليم تطوان إلى الراشيدية، ومن أسواق الجملة إلى التعاونيات الفلاحية، لا يتردد الوزير في زيارة المشاريع، الوقوف على تقدم الأشغال، وفتح حوار مباشر مع الفلاحين والفاعلين المحليين. خلال زيارته الأخيرة لتطوان، دشن مجزرة عصرية، واطّلع على سير أشغال سوق الجملة، وأشرف على إطلاق مشاريع جديدة في إطار الجيل الأخضر.
كلمة السر..العمل
لا يصطنع البواري صفة “التكنوقراطي”، لكنه يشتغل بدقة وحذر، ويعتمد خطاباً خالياً من الشعبوية. اختار أن يبني الثقة لا بالكلمات، بل بالنتائج. ومن خلال الملفات التي بصم عليها، يتضح أن هذا الوزير قد فهم جيداً أن المغرب الفلاحي لا ينتظر شعارات جديدة، بل حلولاً واقعية واستباقية.
في زمن تتراجع فيه الثقة في العمل السياسي، يقدّم أحمد البواري نموذجاً لمسؤول “لا يكثر من الكلام”، لكنه يشتغل في الميدان، يعيد ترتيب الأولويات، ويراهن على الفعل لا القول. هو ابن مدرسة “الدق والسكات”، وهي المدرسة التي يحتاجها المغرب أكثر من أي وقت مضى.