الصحافة للصحافيين و”البودكاست” للجميع

“الدين لله والأرض للجميع”، عبارة طالما ردّدها المغاربة كمرادف للعدالة والإنصاف والتعايش، واليوم يمكننا استعارتها لنقول إن الصحافة للصحافيين و”البودكاست” للجميع، في لحظة فاصلة تشهدها بلادنا حيث يُعاد فيها رسم الحدود الفاصلة بين مهنة الصحافة كما تعرّفها القوانين والأعراف، ومجال صناعة المحتوى الذي انفجر مع انتشار اليوتيوب والبودكاست ومواقع التواصل.
مؤخراً، اشتد النقاش حول من هو الصحافي ومن هو اليوتيوبر، خصوصاً بعد تسريبات عن توجه اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر نحو تقديم مشاريع قوانين جديدة وصفت بأنها ستكون حازمة في هذا الباب.
وفق هذه التسريبات، سيصبح مصدر العائدات المالية ونسبتها محدداً أساسياً في تصنيف المشتغلين: هل نحن أمام صحافي مهني أم صانع محتوى؟ وهل الدخل من عمل صحفي خاضع لأخلاقيات المهنة، أم من قناة تسويقية تجارية لا تلتزم إلا بما يرضي المتابعين؟
هذه النقاشات لم تعد ترفاً فكرياً، بل صارت ضرورة وطنية لتنظيم المشهد الإعلامي، خاصة مع صعود البودكاست كصيغة جديدة في التواصل الجماهيري.
واللافت أن البودكاست اليوم يُنتج من طرف الصحافيين وغير الصحافيين على حد سواء، بل إن بعض أبرز الحلقات التي تحقّق نسب مشاهدة عالية تكون من توقيع صحافيين متمرسين، استثمروا تجربتهم الطويلة في الحوار والتقديم لينجحوا في هذه الصيغة الحديثة.
في المقابل، لا يمكن اعتبار كل بودكاستر صحافياً، لأن البودكاست ليس جنساً صحافياً قائماً بذاته، ولا يُدرّس ضمن وحدات التحرير الصحفي أو الإنتاج السمعي البصري في الجامعات ومعاهد الإعلام.
فالبودكاستر قد يكون فناناً أو محللاً أو هاوياً، لكنه لا يمر عبر نفس مسار التأطير والتكوين، ولا يلتزم بالضرورة بمواثيق شرف المهنة، وهنا وجب التفريق بوضوح، دون انتقاص من قيمة أي طرف.
ورغم هذا، فإن البودكاست أدى دوراً أساسياً في ملء الفراغ الذي كانت تملؤه الرداءة والتفاهة على منصات التواصل الاجتماعي. فـالطبيعة لا تقبل الفراغ، والناس يريدون محتوى، وإذا لم تُقدمه الصحافة والبرامج المهنية، فإن البديل يأتي من أشخاص آخرين بقدرات تعبيرية بسيطة، لكنهم يمتلكون الجرأة والتجربة الميدانية.
فعلاً، تحسّن محتوى “السوشيال ميديا” اليوم مقارنة بما كان عليه قبل سنوات قليلة، حيث كان “صانعو التفاهة” يتسيّدون المشهد، بلا حسيب ولا رقيب.
وهنا لا بد من التوقف عند نقطة مفصلية: الحملة القوية التي أطلقتها النيابة العامة، خاصة بالمحكمة الزجرية الابتدائية بعين السبع، لعبت دوراً جوهرياً في تطهير الفضاء الرقمي من أصحاب المحتوى التافه، حيث أعادت الاعتبار إلى المحتوى الجاد، وشجعت على ظهور فاعلين جدد يحترمون الذوق العام، ويقدمون إضافات مفيدة للمجتمع.
ما نحتاجه اليوم ليس حرباً بين الصحافيين والبودكاسترز، بل تفاهماً على الحدود والمسؤوليات. الصحافي هو من يشتغل وفق قوانين المهنة وله حقوق وواجبات، والبودكاستر له الحرية الكاملة في الإبداع لكن ضمن حدود المسؤولية القانونية والاجتماعية. وإذا وُجد التقاطع، فليكن لصالح المجتمع، وليس على حساب الحقيقة أو الجودة أو الأخلاق.
نحن في لحظة يتقاطع فيها الإعلام مع التقنية، والمهنة مع الشغف، والمسؤولية مع الحرية. لذلك يجب أن نؤسس لنقاش وطني جاد يُشرك الجميع: المهنيين، صناع المحتوى، المشرّعين، والمؤسسات، حتى لا تضيع البوصلة وسط هذا البحر المتلاطم من الأصوات والصور والكلمات.