بلا قيود

قيمة المجتمع الحقيقية في ظل سيطرة التفاهة!

لقد أصبحت الامتحانات الوطنية مرادفةً للكوميديا السخيفة لقنوات الصرف الصحي، و وجهاً يعكس معضلة قيمة الأفراد الحقيقية داخل المجتمع. سخرية منصات لا ترقى حتى لأن تُصنَّف كوميديا وفق معاييرها الفنية، ناهيك عن اعتبارها منصةً صحافية.

الأمر، بقدر ما يبدو تفاهةً عابرة، إلا أنه بروباغاندا تضرب في العمق وببطء ما تبقّى من فتات الأمل في مستوانا التعليمي وفي الوعي الجمعي للأفراد. وقد وصل الأمر إلى درجة من “التخدير” جعلت التلاميذ يتمرّنون على نصّهم الكوميدي السخيف ويُراجعونه قصد إلقائه، أكثر من تحضيرهم للامتحان نفسه.

ولعلّ مثالًا شدّني يصلح لفتح النقاش، بل ويكفي أيضًا لتقديم مراسيم الدفن لجثة الوعي ولبصيص الأمل في إنقاذ ما يمكن إنقاذه: تلميذ يصرّح حرفيًا وبتهكّم:

“I’m a gambler، وقد فزت قبل قليل بما يعادل راتب عدة أساتذة مجتمعين لمدة سنة كاملة أو أكثر”.

والسؤال المطروح هنا: ما علاقة هذا بالامتحان الوطني وبظروف اجتيازه؟!

وبغضّ النظر عن الجانب الأخلاقي والديني لطرق جلب المال (القمار)، وعن حرية الإنسان في نهج طريق يكون مسؤولًا عنه، فإن الأمر يعكس مقارنةً باتت شبه معمّمة، معيارها ربّ المجتمع المعبود: الدخل المادّي.

أصبحنا نقيّم الأشياء ونرتّبها حسب ما تجلبه من منفعة مادّية، مع ضرب جميع المعايير الأخرى بعرض الحائط. وإذا استمررنا على هذا المنوال، فالشيخة بـ“غرامة” ليلة تُعدّ أفضل من المقامر، وصانعة أفلام إباحية أفضل من الشيخة. وإن توقفنا عند هذا الحد، نخرج باستنتاج مفاده أن المجتمع لا يحتاج إلا ممثلات أفلام إباحية، مستغنيًا عن الأستاذ والطبيب والفلاح والعالِم!

إن ترسّخ ثقافة “القيمة مرادفة للدخل المادّي” يقتل، بحق، كل دافعية للقيام بشيء يسير بالمجتمع إلى الأمام.

إنها تقتل الثقافة، والعلم، والقيم. إذ كيف يُمكن لأستاذ مثلًا أن يزرع الشغف في جيل يعلم مسبقًا أن راتبه لا يعادل راتب راقصة؟

والأمر، بقدر ما يبدو تافهًا، إلا أنه يسير بنا نحو حتفنا، تحت شفرة فوضى ووحشية حادّة، تدور عكس مجهودات التمدّن والارتقاء، وضد مسار العلم وتطوير الوعي، لدرجة أننا تصالحنا مع الأمر بصفته حدثاً عابراً و عادياً.

يبدوا أن الأمور توجب علينا أن نستيقظ قليلاً من غفوتنا ، فالتصالح مع “القرف” تحت غطاء الليبرالية، توّج القرف نفسه ملكًا، يبسط سلطانه على العادي والجيد.

لقد تجاوزنا مرحلة “محمودية” حريتنا ما دامت لا تتعدّى حرية الآخر، وأصبحنا نُطَبِّع مع سلطوية القرف في تحديد معايير التقدّم والنجاح داخل مجتمعنا.

وهو ما يُحَتِّم على كل فردٍ سويٍّ منّا أن يأخذ الأمر بجدية وصلابة؛ أن يجعل مواجهة القرف واجبَ الوجوب. فقراءة الكتب لم تعد مجرّد هواية، بل سلاحًا وتِرياقًا نحمي به عقولنا من التعفّن.

وجب أن نأخذ ثقافتنا على محمل الجد، لا على محمل التميّز فقط، وبالتالي وجب خوض حرب عقلية ضد كل متسلّط، متبلّد، ومنحط، لنضمن سلامة وجودنا كأفراد داخل مجتمعٍ سويٍّ يقدّر معايير ذات قيمة.

في مجتمعٍ منحطٍّ ومغرور، قد يصبح فرض معايير تميّز الفرد بغرورٍ أكبر ضرورة، لأن الجثث لا يمكن مخاطبتها بالعقل، والسموم لا يمكن التصالح معها بالتعاطي والتقبّل.

 

و في خضمّ هذا الانحدار القيمي، حيث تُفرض معايير النجاح من خارج جوهر الإنسان، لا تعود المشكلة محصورة في فساد النموذج السائد فحسب، بل في الأثر النفسي العميق الذي يخلّفه على الأفراد الذين ما زالوا يحتفظون بشيء من الوعي والالتزام.

هنا بالضبط يصبح الخطر مضاعفًا: أن لا يكتفي المجتمع بتقديس التفاهة، بل أن يدفعك – بشكل غير مباشر – إلى الشك في ذاتك، وفي قيمة ما تجيده وتؤمن به.

إيّاك أن تدع انحياز المجتمع، وتدفّقه نحو تضخيم معايير معيّنة، أن يزرع فيك شعور الاحتقار تجاه ما تجيده وتملكه.

قد يبسط المتباهي سيطرته على جمعٍ ما، رغم سذاجته، بينما تحتفظ بصمتك رغم فارق الوعي بينكما. وقد يُخيَّل لك أن الظالم والمنحل أخلاقيًا يرى في التزامك، وودّك، وطيبتك خضوعًا وضعفًا.

كما قد يبرّر السذّج فراغ عقولهم بوصف المعرفة التي تجاوزتهم بالسفسطة وغرابة الأطوار، وقِس على ذلك الكثير.

وإذا كان المجتمع “يقدس” معياراً مظهريًّا ما، حقيقيًّا كان أم مزيّفًا، فأنت في غنى عنه. وفي الأشياء التي تجيدها، قدِّس لذّتك.