أمين طه وحب الكمان..من المهد إلى اللحد
في زمنٍ طغت فيه الأنغام الإلكترونية على المشهد الفني، وابتعدت فيه الكثير من الأصوات عن الجذور، يطل الفنان الشعبي أمين طه كأحد الأسماء القليلة التي اختارت أن تتشبث بالتراث، لا لتعيد إنتاجه فحسب، بل لتمنحه نفسًا جديدًا ومعاصرًا. ابن الدرب الشعبي، العاشق للكمان، الذي جعل من هذا الوتر امتدادًا لوجدانه، ومن صوته جسرًا يصل الماضي بالحاضر.
ولد أمين طه في كنف بيئة موسيقية تتنفس النغمة وتعيش على إيقاع “العيطة” و”الركادة” و”الميزان الشعبي”. منذ نعومة أظافره، كان الكمان رفيق دربه. لم يكن مجرد آلة موسيقية، بل قطعة من روحه. يروي مقربون منه أنه كان يعانق الكمان كما يعانق الطفل أمه، وكان صوت الأوتار في بيته أشبه بصوت الحياة ذاتها.
لم يكن صعود أمين طه في الساحة الفنية وليد الصدفة. فقد بدأ مشواره عبر سهرات الأعراس والمواسم الشعبية، حيث راكم تجربة ميدانية غنية مكنته من فهم مزاج الجمهور الشعبي والتفاعل معه. لكن ما ميزه فعلاً هو قدرته على إدماج الكمان في كل تفصيلة من أغانيه، حتى تلك التي تميل إلى العصرية، إذ يظل صوت الكمان حاضرًا كالعطر في النص، لا يُرى لكنه يُحس.
من بين أغانيه البارزة، تبرز “مراية”، وهي عمل يجسد النضج الفني الذي بلغه، من حيث الكلمات والألحان والتوزيع. الأغنية حملت توقيع أيوب البيداري في الكتابة والتلحين، وتوزيع هشام الفطوشي، لكنها حملت بصمة أمين في الأداء، خاصة في مقاطع الكمان التي أضفت على النص عمقًا وجدانيًا نادرًا. كما لا يمكن الحديث عن مساره دون التوقف عند أغنية “ديك الزرگة خرجت عليا”، والتي أضحت لازمة شعبية تتردد في الأعراس والمقاهي وحتى في الشارع.
ورغم بساطة المواضيع التي يعالجها أحيانًا، يظل أمين طه فنانًا صادقًا في تعامله مع المادة الفنية. لا يبحث عن الإثارة أو التريند المؤقت، بل يراهن على الأصالة والهوية. وهذا ما يفسر تعلقه بالكمان، الآلة التي تتطلب صبرًا وتفانيًا ومهارة، وترد الجميل لمن أحبها.
أمين طه ليس فقط مؤديًا، بل أيضًا ظاهرة تستحق التوقف عندها. فهو يمثل نموذجًا لفنان لم يتخل عن أصله، بل جعل من التراث بوابةً نحو المعاصرة. في زمن الانبهار بالمؤثرات الصوتية الصناعية، يظل صوت كمانه بمثابة همسة صدق في أذن الجمهور التواق للأصالة.
من المهد إلى اللحد، يظل حب الكمان عند أمين طه أشبه بميثاق روحي. ليس غريبًا إذن أن نجد جمهوره يتوسع يومًا بعد آخر، ليس فقط في المغرب، بل حتى في الجاليات المغربية بالخارج، حيث تصبح أغانيه جسرًا من الحنين يربط المهاجر بترابه الأم.
في النهاية، قد تتغير الأذواق، وقد تتبدل الوسائط، لكن ما يبقى خالدًا هو ذاك الصوت النابع من الكمان، حين يحتضنه أمين طه بشغف فنان، ويطلقه للعالم كرسالة حب من زمن جميل لا يموت.