“الهروب الكبير”..هجرة جماعية من دار البريهي

سيأتي يومٌ يرحلُ فيه جميع من حصلوا على وظائف داخل الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة منذ عهد إدريس البصري وزير الداخلية والاعلام، ويبقى فيصل العرايشي رئيساً مديراً عاماً لها إلى أن يلبي نداءَ ربه، رغم أن المؤشرات على رحيله تظهر وتختفي بين الفينة والاخرى، كان آخرها عدم دعوته إلى قرعة كأس الأمم الأفريقية المغرب 2025، رغم أن مسرح محمد الخامس لا يبعد عن دار البريهي إلا بأمتار معدودة.
وتشهد الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة موجة غير مسبوقة من الاستقالات، ما يثير أسئلة حارقة حول الأسباب الحقيقية وراء مغادرة الأطر التي راكمت سنوات من الخبرة داخل المؤسسة.
آخر هذه الاستقالات وفق مصدر “زون24” كانت لرئيس مصلحة الأجور، الذي طلب إعفاءه من المسؤولية قبل أن يقدم استقالته رسمياً، رغم التزامه بفترة الإشعار القانونية.
وهذه ليست حالة معزولة، بل تكرار لنمط مستمر من الهجرة المهنية، حيث غادر عدد من الموظفين البارزين في مصلحة الموارد البشرية، مثل الموظف المكلف بملفات الانخراط في صناديق التقاعد و التعاضدية وآخر قدم من وزارة الداخلية، و وثالث اختار الهجرة إلى كندا. حتى سيدة أخرى راكمت 30 سنة من الخبرة، فضلت تغيير مسارها داخل الشركة والانتقال إلى مصلحة البث بقناة الأمازيغية، في إشارة إلى وجود مشاكل عميقة داخل قطاع الموارد البشرية.
الهجرة الجماعية للكفاءات ليست مجرد صدفة، بل تعكس أزمة تدبير حقيقية. كثير من الأطر يجدون أن بيئات العمل الأخرى، سواء داخل المغرب أو خارجه، توفر امتيازات أفضل من حيث الأجور، التحفيزات، و الاستقرار المهني. كما أن غياب رؤية واضحة لتدبير الموارد البشرية داخل الشركة يخلق حالة من عدم اليقين تدفع الموظفين للبحث عن فرص تضمن لهم مساراً مهنياً أكثر استقراراً. استمرار بعض المسؤولين لفترات طويلة في مناصبهم دون تغيير، و غياب سياسات واضحة للتحفيز و التطور الوظيفي، يزيدان من حدة الإحباط داخل المؤسسة.
وفي هذا السياق، يبرز تساؤل آخر حول عدم انتقال مدير الموارد البشرية إلى وزارة الانتقال الطاقي، رغم تعيينه رسمياً بقرار حكومي صدر في 4 يوليوز 2024. هذا التأخير يثير علامات استفهام حول مدى تعقيد الوضع داخل الشركة، وهل هناك عراقيل تنظيمية أم أن هناك اعتبارات أخرى لم يتم الكشف عنها بعد.
ما يجعل هذه الأزمة أكثر خطورة هو أن الشركة الوطنية للإذاعة و التلفزة تمر بتحولات كبرى، حيث تستعد لتصبح شركة قابضة وفقاً لإصلاحات مرتقبة ستغير طريقة تسييرها و تمويلها. هذا التحول يتطلب استقراراً في الموارد البشرية، و ليس نزيفاً يضعف المؤسسة من الداخل. فرحيل الأطر المؤهلة في مرحلة حساسة قد يؤثر على قدرة الشركة على الالتزام بتعهداتها و تحقيق الأهداف المسطرة في استراتيجيتها الجديدة.
إذا استمرت هذه الاستقالات بوتيرتها الحالية، فقد تجد المؤسسة نفسها في وضع لا تحسد عليه، حيث تواجه تحديات مرتبطة بالحفاظ على جودة خدماتها الإعلامية في وقت تحتاج فيه إلى استقطاب المواهب بدل فقدانها. الأمر يستوجب تدخلاً عاجلاً لإعادة النظر في تدبير الموارد البشرية، من خلال وضع سياسات تحفيزية أكثر فاعلية، و ضمان الشفافية في التسيير، و إرساء آليات تضمن استقرار الكفاءات داخل المؤسسة. الإصلاح لم يعد خياراً، بل ضرورة لإنقاذ الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة من أزمة قد تعصف بها في وقت حساس من تاريخها.