بين “الصحافة المناضلة” و”المؤثرين”..الجمعية تدق ناقوس الخطر وتحذّر من الفوضى المقنعة

في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها مهنة الصحافة، والتحديات المتعددة التي تواجهها في العصر الرقمي، لم تعد النقاشات مقتصرة على القوانين والتنظيمات، بل أصبحت تشمل، بحدة وقلق، قضية هوية الصحافة ومن يحق له ممارستها. وفي هذا السياق، عبّرت الجمعية الوطنية للإعلام والناشرين عن موقف صريح، لا يخلو من التحذير، من اتساع رقعة الممارسات الصحافية غير المهنية، وازدياد التأثير السلبي لما يُسمى “الصحافة المناضلة”، أو “صحافة السياسيين”، أو حتى “المؤثرين والناشطين الرقميين”، الذين باتوا يقدّمون أنفسهم بديلاً عن الصحافة التقليدية، دون امتلاك أدواتها ولا التزامهم بقواعدها وأخلاقياتها.
تؤكد الجمعية في بلاغها أن الصحافة المهنية باتت تواجه خطراً مزدوجاً: من جهة، الاختراق الداخلي المتمثل في ممارسات منحرفة تصدر عن بعض المنتسبين للمهنة، ومن جهة ثانية، الاختراق الخارجي الذي يتمثل في ظواهر الانتحال والنصب، باسم “النضال الإعلامي”، أو عبر منصات التواصل الاجتماعي التي تحوّلت إلى ساحات مفتوحة للتشهير والإشاعة والتوجيه المريب للرأي العام.
وتضع الجمعية يدها، بدقة وشجاعة، على هذا الجرح العميق في جسد الصحافة، مبيّنة أن تهاون المؤسسات في مواجهة هذه الانحرافات يهدد بتقويض شرعية المهنة، ويضع الصحافي الحقيقي والمقاولة الجادة في وضع دفاعي مستمر، بل ويمنح نوعاً من “الشرعية الشعبية” للممارسات التي لا علاقة لها بالصحافة لا من قريب ولا من بعيد.
من هذا المنطلق، تدعو الجمعية إلى تعبئة شاملة ويقظة جماعية من أجل حماية الصحافة المهنية من هذا التلوث الرمزي والعملي الذي يطالها. وتُحذر من استمرار خلط الأوراق بين من يعمل داخل قواعد المهنة، ويلتزم بأخلاقياتها وتراكمها التاريخي، وبين من اختار تحويل “تيك توك” أو “يوتيوب” أو “لايفات فيسبوك” إلى منابر بديلة، دون حسيب ولا رقيب، فقط لأنها تحقق نسب مشاهدة أو تثير الجدل.
وتُثير الجمعية في هذا الإطار إشكالية دقيقة تتعلق بما يُسمى بـ”الصحافة المناضلة”، وهي ظاهرة باتت تتغذى من خطاب المظلومية، وتتستر وراء شعارات الحرية و”الكشف عن الفساد”، دون أن تلتزم بأبسط المعايير المهنية من تحقق وتوازن وتعدد مصادر. ورغم الطابع الشعبوي الجذاب لهذا النوع من المحتوى، إلا أن خطورته تكمن في تقديم صورة مشوهة عن الصحافة، وفي تكريس ثقافة التشكيك المستمر في كل المؤسسات، بما في ذلك مؤسسات الصحافة نفسها.
أما على مستوى “صحافة المؤثرين”، فإن الجمعية تُسجل أن بعض “الناشطين” الرقميين يمارسون تأثيراً مباشراً على الرأي العام، ويتناولون قضايا حساسة، دون خلفية مهنية، ولا وعي قانوني، بل فقط بمنطق الجذب والانتشار، مما يحوّل الإعلام إلى منتوج استهلاكي ترفيهي، يفتقر إلى العمق، ويُهدد بإفراغ الصحافة من محتواها القيمي والمعرفي.
إن الجمعية لا تدعو إلى الحجر على حرية التعبير، بل تؤكد، بوضوح، على احترامها الكامل لهذا الحق الدستوري. غير أن ما ترفضه هو استغلال هذه الحرية لتمرير ممارسات تسيء إلى المهنة، وتضرب مصداقية الصحافي، وتُشوش على المؤسسات التي تشتغل وفق القانون وتحت سقف المسؤولية. لذلك فهي تطالب بوضع ضوابط واضحة للتمييز بين الصحافي المهني، الذي يخضع لمساطر الاعتماد والتكوين والمساءلة، وبين صانع المحتوى، أو الناشط الرقمي، الذي لا يخضع لأي مسؤولية أخلاقية أو مهنية.
وفي هذا السياق، تعتبر الجمعية أن مشروع القانون 26.25 لا يمكن أن يُحدث الأثر المطلوب ما لم يُواكب بتطبيق صارم، وبمساءلة حقيقية للمخالفين، وبحملات توعية للرأي العام حول الفرق الجوهري بين المعلومة والادعاء، وبين الصحافة والإثارة. كما تؤكد على أهمية تفعيل المجلس الوطني للصحافة كمؤسسة قادرة على ضبط المجال المهني، ومواجهة مظاهر الفوضى، وتقديم النموذج المهني الذي يحتذى به، عوض أن تظل الصحافة الحقيقية في موقع دفاعي تُشكك فيه يومياً من قبل خصومها ومنافسيها غير الشرعيين.
في الختام، تذكّر الجمعية أن النموذج المقاولاتي القوي والمستقل، هو وحده القادر على إنتاج صحافة قادرة على مقاومة هذا الغزو الرمزي، وأن الاستثمار في الصحافي المهني، وفي التكوين، وفي شروط العمل الكريم، هو الضمانة الوحيدة لمستقبل صحافة تحترم ذكاء المواطن، وتؤسس لتقليد مهني صلب يحمي المجتمع من الانحدار نحو الفوضى الإعلامية الشاملة.


