بنسعيد وأموالنا

في مغرب اليوم، حيث المواطن يُطالَب بشد الحزام في كل تفاصيل حياته اليومية، وحيث الدولة تُشهر ورقة التقشف أمام القطاعات الاجتماعية الحيوية كالصحة والتعليم، نجد وزارة الشباب والثقافة والتواصل التي يقودها محمد المهدي بنسعيد تصرف بسخاء غير مفهوم الملايير من أموال دافعي الضرائب في صفقات أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها مثيرة للريبة.
بنسعيد، الذي لا يخفي طموحه في أن يكون القائد الأوحد لحزب الأصالة والمعاصرة (الجرار)، يجد في الوزارة التي يديرها خزينة مفتوحة بلا رقيب ولا حسيب، تُغدق من أموالنا على شركات بعينها، تستفيد تارة من صفقات تنظيم التظاهرات الكبرى، وتارة من إنتاج المحتوى، وتارة من خدمات الأمن والنظافة واللوجستيك.
ولعل أبرز دليل على هذا العبث المالي هو ما كشفه موقع “زون24” الأسبوع المنصرم، في تحقيق صحفي موثق حول المعرض الدولي للنشر والكتاب، الذي نُقل بشكل غامض من الدار البيضاء إلى الرباط، في صفقة أثارت الكثير من التساؤلات حول الجدوى والأسباب الخفية لهذا القرار. التحقيق فضح كيف تحولت ميزانية المعرض إلى كعكة شهية اقتسمتها شركات قريبة من دوائر القرار داخل الوزارة.
كيف يعقل أن تُرصد 400 مليون سنتيم لخدمات الأمن الخاص والتعشيب والنظافة فقط لشعبة التواصل؟ أي تواصل هذا الذي يحتاج إلى مثل هذا المبلغ الفاحش من أجل قص العشب وحراسة الأبواب؟ وهل أصبحت الوزارة ملاذاً لشركات الخدمات التي لا تقدم سوى الفتات مقابل ملايير السنتيمات؟
ولم يقف النزيف عند هذا الحد، بل تم تخصيص 200 مليون سنتيم لإنتاج كبسولات رقمية، صفقة فازت بها شركة “محظوظة” ستفوز لاحقاً بصفقات عمومية أخرى في الوزارة نفسها، وربما في مؤسسات أخرى، في مشهد يعيد إنتاج منطق “الصفقات المدبرة” التي لا تترك حيزاً حقيقياً للمنافسة الشريفة.
نحن لا نتهم الوزير محمد المهدي بنسعيد بالسرقة، لأن الأصل هو البراءة إلى أن يثبت العكس، ولكن من حقنا كمواطنين أن نتساءل: من يحمي المال العام من هذا الهدر المقنن؟ ومن يجرؤ على مساءلة الوزير عن هذه الصفقات الضخمة التي تُمرر في صمت مريب؟
“المال السايب يعلم السرقة” كما يقول المثل المغربي، والمال العام الذي يُصرف بهذه الطريقة العشوائية دون رقابة صارمة ولا محاسبة شفافة، يصبح عرضة لكل أشكال الريع والتلاعب. فلا معنى أن ترفع الحكومة شعار “ترشيد النفقات” في القطاعات الحيوية، بينما تُفتح الخزائن بلا حدود أمام شركات بعينها، بعضها حديث العهد، وبعضها يرتبط بشبكة مصالح معروفة في محيط الوزير.
ما الذي يجعل وزارة الشباب والثقافة والتواصل تستسلم بهذا الشكل لضغوط لوبيات الصفقات؟ ولماذا لم تعلن الوزارة للرأي العام تفاصيل هذه العقود بكل وضوح، حتى لا يبقى مجال للشك أو التأويل؟ وهل سيتحرك المجلس الأعلى للحسابات، أو البرلمان، أو حتى النيابة العامة، لفتح تحقيق جدي حول هذه الصفقات المليارية؟
الخطير في كل هذا، أن ما يجري في الوزارة اليوم قد يكون نموذجاً مصغراً لما يُحضّر له المهدي بنسعيد من مشروع سياسي شخصي، يقوم على تكديس النفوذ المالي والإعلامي لخدمة طموحه في قيادة الجرار، وربما ما هو أبعد من ذلك. فالرجل الذي يستعد لتولي أمانة الحزب، يحتاج إلى كثير من المال والدعم لتثبيت نفوذه في المشهد الحزبي، والمال العمومي يبدو وسيلة مثالية لتحقيق هذا الهدف إن لم تكن هناك رقابة صارمة توقف هذا النزيف.
في النهاية، لا نطالب إلا بشيء بسيط: الشفافية والمحاسبة. من حقنا أن نعرف أين تصرف أموالنا، ومن يحظى بهذه الصفقات، وبأي شروط؟ ومن حقنا أن نطالب بوقف كل عبث مالي، لأن المال العام ملك للمغاربة وليس لحفنة من الشركات المقربة من الوزير.
محمد المهدي بنسعيد مطالب اليوم قبل الغد بالخروج عن صمته، وتقديم توضيحات للرأي العام. وإن لم يفعل، فسيظل اسمه مرتبطاً بوزارة أصبحت عنواناً لهدر المال العمومي في زمن يفترض فيه أن نحصي كل درهم خدمة للصحة والتعليم والتشغيل… لا لخدمة مصالح ضيقة وشخصية.
فلا بد من محاسبة بنسعيد… على أموالنا.