بلا قيود

من المجرم؟

في كل مرة يُعلن فيها عن حادثة عنف، عن جريمة بشعة، عن انزلاق جديد في سلوك المجتمع، يُرفع الإصبع سريعًا في وجه الآخر: ذلك الغريب، ذلك الشاب، ذلك الجيل، ذلك “المنحرف”. تتراشق الاتهامات، ويغمرنا شعور طارئ بإلقاء اللوم، كأن ما يحدث دخيل علينا، كأننا لتوِّنا غادرنا المدينة الفاضلة.

لكن الحقيقة؟ الحقيقة أقرب مما نظن، وأثقل مما نقوى على تحمّله.

الخراب الذي نراه ليس وليد اللحظة، صاعقة نزلت من السماء، بل بناء تراكم ببطء، بلامبالاة، بصمت مديد.

هو انعكاس لتخلّينا الجماعي عن مسؤولياتنا الوجودية: مسؤولية الفهم، مسؤولية الاحتواء، مسؤولية السؤال.

لقد ألفنا العيش فوق السطح، نخشى الغوص في العمق لأنه موحل، لأنه مربك، لأنه لا يسمح لنا بالتماهي مع صورة البريء.

لكن هل يُعقل أن نستنكر العنف في الخارج ونحن نمارسه بشكل يومي، بصمتنا، بنظراتنا، بلغة إقصائنا، باحتقار المختلف؟

هل نملك حق التنديد، إن كنا نربّي أبناءنا على الخوف لا على الحب، على الطاعة لا على التفكير، على الصمت لا على الحوار؟

الجريمة ليست دائمًا فعلاً، بل قد تكون نتيجة.

نتيجة لتربية مبنية على القمع، لتعليم يفرغ العقول، لخطاب لا يزرع الأمل.

هي لا تولد من العدم، بل من كل لحظة قلنا فيها “ماشي سوقي”، من كل موقف اخترنا فيه الصمت على الموقف، من كل مرة برّرنا الجرح لأنه لا يطرق بابنا.

نعيش في مجتمع فقد تدريجيًا إحساسه بالانتماء. لا أحد يشعر بأنه مرئي. لا أحد يُصغي إلى أحد. الكل يصرخ، لكن لا أحد يسمع.

في قلب هذا الصخب، يولد الانفصال. تنمو الوحشة. ويتحوّل الإنسان من كائن يبحث عن المعنى إلى كائن عقيدته “أنا ومن بعدي الطوفان”.

ولذا، فإن السؤال الذي يجب أن نطرحه ليس: “لماذا يحدث هذا؟”، بل: “ما الذي لم نفعله ليحدث هذا؟”

ما الذي أهملناه؟ فيما قصرنا؟ ما القيم التي واراها الثرى لأنّها لم تعد مربحة أو صيحة جديدة؟

كيف سمحنا للمجتمع أن يتحول إلى مسرح خوف، بدل أن يكون حاضنة أمل؟

ربما آن الأوان لنكفّ عن جلد الآخرين، ونمارس النقد الحقيقي: ذاك الذي يمرّ عبر الذات أولاً.

أن نعيد النظر في علاقتنا بأنفسنا، ببعضنا، بعالمنا الداخلي الذي ينعكس خارجه في كل ما نراه من ألم.

أن نفهم أن الإصلاح لا يبدأ من الخارج، بل من لحظة صادقة، لحظة يعترف فيها الإنسان أن خراب العالم، وإن بدا بعيدًا، يبدأ غالبًا من شرخ صغير في داخله… تجاهله، فكبر.