وجهات نظر

إمارة المؤمنين في ملتقيات مجمع المنتسبين للصالحين

انطلق “مجمع المنتسبين للصالحين” الذي تنظمه الزاوية الريسونية منذ سنة 2011 في سياق دولي وإقليمي مشحون بضرب رموز ومؤسسات الدول، مما كان يهدد باستقرار بنيتها ونظامها، وقد علت أصوات تستهدف المشروعية الدينية والتاريخية للمؤسسات، وأضحت تشكك في مصداقية قياداتها، فأصبحت بعض هذه الدول تعيش في حالة الفوضى واللااستقرار، فجاء هذا الملتقى ليبصر وينور المغاربة بأهمية نعمة مؤسسة إمارة المومنين التي نجحت في استيعاب كل الأصوات والأطياف من خلال الدور المحوري الفعال الذي اضطلعت به منذ الفتح في عهد المولى ادريس ضمانا للأمن الروحي في بعده الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وصمام أمان للأمة المغربية.

وفي مقالتنا هذه سنسلط الضوء على الدور العملي لملتقيات مجمع الصالحين في خدمة إمارة المؤمنين وإبراز منجزها الذي انعكس على واقعنا المُعاش، وهو الأمر الذي مكن المملكة المغربية من أن تكون على رأس الدول التي تصدت لمشاريع التقسيم والانفصال.

لقد كان لتوظيف الخطاب الديني تحت المظلة السياسية لدى تنظيمات ومؤسسات كبرى وقع كارثي وسلبي تجلى في فوضى الفتوى وخطاب الكراهية وتسيب الإعلام الديني، إلا أن القيادة الرشيدة لهذه الأمة جنَّبت المغرب من هذا العبث والمنزلق الخطير، وقد شهدنا عبر قرون من الزمن إخلاص الإمامة العظمى “إمارة المومنين” للدين الإسلامي الحنيف، وذلك بجعل أحكامه وقيمه من الثوابت الراسخة للأمة المغربية وحاكمةً موجهة للسياسات العمومية.

إن صمود الحقل الديني بالمغرب راجع لمتانة بناءه التنظيمي، ويمكن تجريد البناء الهرمي له ابتداءً من قطب رحاه المتمثل في إمارة المومنين الضامنة للاستقرار في بُعدها العملي، فالمجلس العلمي الأعلى جهة مخوَّل لها وحدها إصدار الفتوى والوعظ والإرشاد، ثم وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية الموكول لها إدارة وتدبير الشأن الديني، وتنضوي تحتها جامعة القرويين بمختلف مؤسساتها من دار الحديث الحسنية، ومعهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات، ومعهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية، ومؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، والمجلس العلمي الأوروبي، والرابطة المحمدية للعلماء، كما أن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تشرف على صيانة أعرق مؤسسة ألا وهي المسجد، إضافة إلى الإعلام الديني المتمثل في قناة وإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، ومجلة دعوة الحق، والدروس الحسنية، والكراسي العلمية، وغيرها، كما أن مؤسسة الزوايا تُعد لبِنة من لبنات هذا البناء الصلب حيث أولتها إمارة المومنين عبر التاريخ عناية خاصة لما لها من دور توجيهي للمجتمع وتربوي يروم تهذيب السلوك.

 

إن هذا التنظيم المحكم بنى رؤيته على ثلاث تجسيرات، تجسير بين العقل والنقل متمثل في العقيدة الأشعرية، وتجسير بين النقل والواقع متمثل في الفقه المالكي، وتجسير بين العقل والروح متمثل في التصوف الجنيدي السني.

 

وإن ملتقيات مجمع المنتسبين للصالحين هي ثمرة من ثمرات مواكبة الزاوية الريسونية وطريقتها الصوفية لمؤسسة إمارة المومنين بخصوص الخطاب الديني وراهنيته في الحفاظ على الأمن الروحي للمغاربة، ورؤيتها لتأطير الشأن الديني، فكان من أهداف هذه الملتقيات الحث والتشجيع على حفظ القرآن الكريم من خلال الاتصال بالمدارس القرآنية وإنشاء “مدرسة مجمع الصالحين سيدي عبد السلام ابن ريسون الخاصة للتعليم العتيق” بشفشاون، وفي هذا الصدد فإن الملتقيات دائما ما تدعو حفظة القرآن الكريم والأئمة والمرشدين والمرشدات لمزيد من خدمة الثوابت الدينية والوطنية نظرا لدورهم الفعال في تبليغ الرسالة الإسلامية وفق منهج الوسطية والاعتدال، كما أن الملتقى يركز على دور العلماء الذين حضروا معنا وعلى رأسهم فضيلة الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى الدكتور محمد يسف حفظه الله، كما تعتمد هذه الملتقيات على ممثلي الصحراء المغربية في إعادة نسج الروابط الروحية بين الشمال والجنوب، وتهتم هذه الملتقيات بمسلمي سبتة ومليلية والأندلس باعتبار ما يضطلعون به خدمة للهوية المغربية، إضافة إلى ممثلي أشراف الحجاز والعلماء الأفارقة الذين يباركون للمغاربة تشبثهم بقائدهم الإمام الأعظم مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس حفظه الله.

إن هذه الملتقيات ترسخ وتقوي أواصر هذه الروابط الروحية التي تجتمع على مؤسسة إمارة المومنين، وذلك باستمرارية تواصل الزاوية الريسونية مع مختلف الفاعلين في هذا المجال، وقد تم الاشتغال في هذه الملتقيات على الورش الإعلامي من خلال الحرص على جمع شمل فاعلين إعلاميين في الكثير من الأنشطة الموازية على هامش هذه الملتقيات، وكانت عبارة عن جلسات تفكير ونقاشات مفتوحة بينهم لبلورة رؤية إعلامية جديدة للتعريف بمؤسسة إمارة المومنين وبطرق اشتغالها وفق الآليات الشرعية.

وبذلك فإن “ملتقيات مجمع المنتسبين للصالحين” تعدُّ استمرارا لصوت المغاربة الأوفياء لدينهم ووطنهم وملكهم، إذ منذ 2011 اشتغلنا على بناء منصة تفكير وانطلاق العديد من الأفكار والمقترحات والمشاريع العلمية والأكاديمية التي تدعم التوجه المغربي في مركزية “الإمامة العظمى” لما لها من أهمية بالغة في حفظ وصون الهوية المغربية، وساهمت هذه المنصة في التأكيد على أن قيم الإسلام السمحة عامل من عوامل الإنقاذ الجماعي وتحصين المجتمع من الاستهداف الخارجي، كما ساهمت هذه الملتقيات في إحياء الروابط والعلاقات بين مختلف الزوايا المغربية وخلق دينامية جديدة بين منتسبيها.

وإننا في “الملتقى الرابع عشر لمجمع المنتسبين للصالحين” الذي تنظمه الريسونية بشفشاون تحت الرعاية المولوية السامية من 22 يوليوز إلى 27 يوليوز 2024 بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتربع مولانا أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس نصره الله، في موضوع: “إمارة المومنين ضمان لمغربنا الأمين”، تحت شعار قوله تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ ندعو جميع الجهات والفاعلين والمهتمين إلى العمل على تأكيد أهمية مؤسسة إمارة المومنين كضمان للأمن الروحي، وترسيخ الخطاب الديني المعتدل، ودعم التعليم العتيق، وتعزيز التواصل مع الزوايا، وتطوير الإعلام الديني، وتكريم حفظة القرآن والأئمة والعلماء، والتصدي لكل من يتطاول على هيبة إمارة المومنين وسمعة المغاربة ومحاولة التشويش على الأمن الروحي والاجتماعي لهذه الأمة، وكذا إحياء المناسبات الدينية والوطنية لما لها من أثر في تماسك المغاربة بتاريخهم وهويتهم.

ومن جهة أخرى فإن هذه الملتقيات تدعو جميع الزوايا والمنتسبين للصالحين للعمل على تقوية الروابط فيما بينهم، وإنشاء منصات إلكترونية وتطويرها لنشر القيم الدينية السمحة والوسطية وتعزيز التعليم الديني، وتوفير مواد علمية تستهدف الجيل الصاعد عبر الإنترنت وتكون في متناول الجميع.

وتحث هذه اللقاءات جميع أهل الفضل والصلاح للانخراط في الأوراش الوطنية الكبرى من اقتراح برامج ومبادرات لتقديم الدعم النفسي والاجتماعي للأفراد والجماعات، خاصة في المناطق النائية والفقيرة، لتعزيز الاستقرار والسلم الاجتماعي.

كما أن موضوع الشباب والمرأة والطفل يحظى باهتمام هذه الملتقيات إذ تنص التوصيات على تطوير برامج خاصة لتعزيز انخراط هذه الفئات في الأنشطة الدينية والاجتماعية، وتوفير فرص للتعليم والتدريب المهني لهم.

ويعمل المجتمعون في هذه اللقاءات على حث كل الجهات الفاعلة لدعم البحث العلمي في مجال الدراسات الإسلامية والاجتماعية، وتشجيع الأكاديميين على تقديم أبحاث ودراسات تساهم في تعزيز الأمن الروحي والاستقرار الاجتماعي.

ونظرا لما تكتسيه السياحة الدينية في المغرب فإن لجان هذه الملتقيات تعمل على إنشاء الدليل السياحي الأثري الذي يعرف بالمواقع الدينية والتاريخية، ويوفر معلومات المرافق والخدمات السياحية التي تلبي احتياجات الزوار، كما تعمل هذه اللجان على التنبيه لحماية التراث الثقافي والديني المغربي، من خلال الحث على ترميم المواقع التاريخية وإقامة فعاليات تسلط الضوء على هذا التراث.

كما توصي هذه الملتقيات بتنظيم دورات تكوينية للمغاربة المقيمين بالخارج وللمسلمين الإسبان في إمارة المومنين لتعزيز قدراتهم في التعريف بهذه المؤسسة والتواصل مع المجتمعات الغربية وتقديم الحلول للمشاكل التي يعيشها المغاربة والمسلمون في بلاد المهجر بطرق مبتكرة وفعالة.

إن الخيط الرفيع الذي يجمع كل هذه التطلعات التي ترجوها ملتقيات مجمع المنتسبين للصالحين هو الدعاء لمولانا أمير المومنين وسبط النبي الأمين جلالة الملك محمد السادس نصره الله والذي يبذل جهدا كبيرا للحفاظ على مؤسسة إمارة المومنين التي تمثل حقيقة الخلافة النبوية، أعانه الله على تحمل هذه الأمانة وأمد له في عمره وبارك في أنفاسه وحفظه بما حفظ به الذكر الحكيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وحرر بالزاوية الريسونية بشفشاون يومه الجمعة 12 محرم موافق 19 يوليوز 2024.