وجهات نظر

محمد كريم يكتب: فلوس اللبن..يديهم زعطوط

تمسك وزير التربية الوطنية بسلك المسطرة التأديبية إلى نهايتها في حق الأساتذة الموقوفين من جهة، وتبني زميله في التعليم العالي مقاربة قائمة على التهديد و “التهذيب والتشديب” في حق طلبة الطب وطب الاسنان والصيدلة في القطاع العمومي، المقاطعين للدراسة وللامتحانات منذ ما يزيد عن أربعة أشهر، من جهة ثانية، يعطيان الانطباع ان هناك خلل وارتباك ما على مستوى إدراك طبيعة المهام المنوطة بالسلطة الحكومية وبفلسفتها ومراميها.

ففي الحالة الأولى، نلاحظ أن الحراك الذي انخرط فيه أساتذة المستويين الإبتدائي والثانوي من أجل إنهاء العمل بمنظومة التعاقد وانتزاع بعض المكاسب (المادية) فرض خيار اللجوء الى مقاطعة التدريس و الخروج إلى الشارع. وترتيبا عليه أفضت عملية شد الحبل هذه بعد أخذ ورد إلى إيجاد حل توافقي مكن إلى حد ما من تجاوز الاحتقان وحالة الشلل التي ألمت بالمنظومة التربوية الوطنية. وبالتالي، كان من المفروض أن يتم طي ملف الموقوفين نهائيا في سياق التوافق على إيجاد مخرج يسمح بنزع فتيل الاستهجان والاحساس بالظلم لدى نساء ورجال التعليم، ومن ثم يساعد على “تضميد الجراح”و انقاد ما يمكن انقاده، وتحديدا تفادي شبح سنة “بيضاء”، على اعتبار أن الحركة الاحتجاجية لم تتجاوز حدود التعبير عن المطالب بشكل متمدن ومسؤول وقانوني. الا ان واقع الحال يعكس على ما يبدو رغبة “التأديب” أو “إعادة التربية” في حق من شملتهم قرارات التوقيف بناء على مقتضيات الفصل 73 السيء الذكر حتى يكونوا عبرة لكل من “سولت” له نفسه من منظور سلطوي التمرد على سياسة الأمر الواقع، علما ان خيار “التأديب” بدا، بعد أن وضعت “الحرب” اوزارها، خيارا لا مُبرّر ولا مفهوم من طرف الشغيلة التعليمية من جهة، وبعض النقابات التعليمية على وجه الخصوص من جهة ثانية.

اما في الحالة الثانية، فنلاحظ انه بعد إعلان طلبة الطب وطب الاسنان والصيدلة في القطاع العمومي خلال هذا الاسبوع عن جاهزيتم لاستئناف الحوار مع الحكومة قصد العمل على تفادي خيار الإعلان عن سنة “بيضاء”، بعد مقاطعة شبه كلية للدراسة ولامتحانات الدورة الخريفية، وهي المقاطعة التي كانت قد تقررت على خلفية رفض الطلبة المعنيين تنزيل الوزارة الوصية منظومة تكوينية (مقتضبة)، غير واضحة الدوافع الحقيقة على ما يبدو بسبب ارتكازها بالاساس على تقليص سنوات التدريس وعلى الزيادة العددية في عدد اطباء المستقبل، في حين تم تغييب استحضار واقع الإكتظاظ و متطلبات الجودة والعجز على مستوى توفير البنيات التحية اللازمة لاستقبال الطلبة/الأطباء من جهة ثانية. وبقدر ما اعتبر طلبة الطب وطب الاسنان والصيدلة هذه الخيارات الحكومة في هذا الاطار خيارات غير بيداغوجية وغير معقلنة، اعتبروها كذلك خيارات مجحفة، مناهضة لمعايير الجودة والفعالية وتعتيمية من حيث منسوب التحفيز والطموح وتحقيق الذات واغراء مقولة “ارض الله الواسعة” . وبالتالي، فاعتماد وزارة التعليم العالي من وجهة نظر المتضررين لا تعدو ان تكون مقاربة سلطوية قائمة على التهديد والوعيد وقطع الأرزاق” (تعليق المنح) والاحالة على المجالس التأديبية بهدف اتخاذ عقوبة الطرد في حق أعضاء اللجنة الوطنية لطلب الطب وطب الأسنان والصيدلة، الخ.

هذه المواقف الغير مفهومة واساليب طي الملفات المومأ اليها المصاحبة لها، بصرف النظر عن تطمينات وزير التربية الوطنية أمام أعضاء مجلس المستشارين بخصوص ملف الموقوفين، تثير كثيرا من الشك والريبة بخصوص مقاصدها، بحيث تعطي الحكومة، من خلال “تصلب” مواقف الوزارات الوصية، الانطباع انها تسعى لتلقين المعنيين درسا (قاسيا) حول مآلات من يرفضون الرضوخ لتنزيل مخططات تتخفى بلباس السيادة، والحال أن الخيارات في مجال السياسات العمومية، كما السياسة، محكومة بمنطق فن الممكن. وبالتالي، فليس من طبع الحكومات، التي تفرزها صناديق الاقتراع، أي حكومات تجسد الإرادة العامة، الغل او الحقد او الاكتراث برد الصاع صاعين ولا ان تميل لرغبة القوة والغلبة والردع والترهيب ولا لغريزة الانتقام والثأر بشكل عام. لذا فحتى لا تعطي الحكومة (الحالية) الانطباع انها تشكل امتدادا لثقافة حكومية تغولية غارقة، من منظور تاريخي، في هوس تنظيم حرْكات تأديبية موجهة ل”قبائل” تعبر في جوهرها عن رفض التجاوزات و تعسف وتطاول “القياد” ورجال السلطة ، لكن يتم من حيث الشكل الباسها قميص التمرد حتى تظهر بمظهر الخارج عن الشرعية، وعن طاعة السلطة المركزية، يبدو أن لا بديل أمامها غير طي ملف الأساتذة الموقوفين من جهة، والانصات لنبض “الشارع” من خلال الرجوع لطاولة الحوار بدون قيد ولا شرط بخصوص مطالب طلبة الطب وطب الاسنان والصيدلة من جهة ثانية. ففي غياب الترفع عن رغبة “التأديب” ستعمل الحكومة بشكل إرادي أو غير إرادي على استدامة ظاهرة الخوف من الانتقام، أي استدامة مجتمع مهزوز، تغلب عليه الرهبة والتوثر والاتكال والانتظارية وفقدان الإرادة وموت حاسة الفعل. إذ في هذه الحالة سنكون امام مجتمع محكوم بثقافة “اللي قالها المخزن هي اللي كاينة”، و “الفم المسدود ما يدخلو الذبان”، الخ. غير أن “المخزن” هنا لا يدرك خطورة هذه الخيارات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى نسف سبل الثقة في النفس والاحساس بالمسؤولية، ومن ثم نسف سبل الإقلاع، اي سبل التخلص من اخطر عوامل التخلف (العوامل النفسية)، التي يلخص مأساتها مثل مغربي ذو دلالة أعمق في هذا السياق، مفاده أن ” فلوس اللبن… يديهم زعطوط”، في إشارة إلى كون كل المجهودات المبدولة ستذهب جميعها، في ظل سياسة عدم التبصر، حتما سدى.

محمد كريم

كلية الحقوق، جامعة الحسن الاول – سطات