البقالي ليس ملاكاً

لا أريد أن أعود مع عبد الله البقالي إلى قصة “سمك مهدية” ولا إلى دوافع خروجه المفاجئ من اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر، ولا حتى إلى حماسته المفاجئة للدفاع عن الزميل حميد المهداوي في معركته المفتوحة مع اللجنة. فهذه التفاصيل، مهما بدت جذابة لإشعال النقاش، ليست جوهر الموضوع. القضية أكبر من “سمكة” وأكثر عمقاً من لحظة تضامن موسمية. القضية تتعلق بمسار، وبنية تتحكم في المهنة، ومواقف لم تظهر إلا حين أصبح المركب يُغرق، وحين لم يعد البقاء فيه مغرياً كما كان قبل السادس من أكتوبر 2025.
من يريد أن يفهم سياق “الخروج” يجب أن يعود إلى الخلف قليلاً: إلى زمن كانت فيه اللجنة المؤقتة تمنح تعويضات سمينة، وكانت السلطة داخلها تتيح نفوذاً واسعاً لمن يوجدون في مواقع القرار. حينها لم نسمع من عبد الله البقالي أي انتقاد جوهري لبنية اتخاذ القرار أو لغياب الشفافية أو لطريقة تدبير الملفات.
لم نسمع أي دفاع مبدئي عن القيم التي يلوّح بها اليوم البعض في تصريحات غاضبة أو خرجات إعلامية تبحث عن معنى بعدما ضاع المعنى الفعلي حين كانت المسؤولية قائمة والموقع مؤثراً.
السؤال الذي يطرحه الرأي العام اليوم – ويطرحه كل صحافي صادق مع نفسه – ليس: لماذا خرج البقالي؟ بل: لماذا لم يخرج حين كان الخروج موقفاً مكلفاً؟ وحين كان البقاء يعني الاستفادة من موقع يتيح التحكم في رقاب الصحافيين وفي أرزاقهم وفي مستقبلهم المهني؟ لماذا لم نسمع صوته حين كانت اللجنة تغرق في ارتباك تنظيمي، وحين كانت التصورات تُفرض من فوق بإرادة من يدير ولا يريد أن يسمع؟ لماذا لم يقرر تجميد عضويته عندما كانت القرارات تُصنع في غرف مغلقة وتُمرر بأغلبية صامتة؟
لنكن واضحين: اللجنة قبل السادس من أكتوبر 2025 لم تكن هي اللجنة بعد هذا التاريخ. قبل ذلك، كانت “دار العرس”، وكانت التعويضات بالآلاف، وكان النفوذ ممتداً، وكان الموقع مغرياً لكل من يريد ممارسة تأثير مباشر على المشهد الإعلامي. بعد هذا التاريخ، انطفأت الأضواء، وجفّت الامتيازات، وأصبحت المسؤولية عبئاً أكثر مما هي مكسباً. وهنا فقط ظهر خطاب المبادئ. هنا فقط ارتفعت نبرة الاحتجاج. وهنا فقط أصبح الدفاع عن زميل أو مهاجمة اللجنة “معركة” تستحق الخروج.
لكن اسمح لي، السي عبد الله البقالي، أن أقول لك شيئاً بكل صراحة: موقع “زون24″ تعرّض للذبح، للسلخ، ولتعسّف واضح في ملف تجديد بطاقة الصحافة لسنة 2024. كل ذلك بسبب شرط تعجيزي أنت شخصياً من هندسته وأقرّه: شرط تأمين CNSS بدل CNOPS. لماذا؟ ما الغاية من اشتراط نظام كان معروفاً منذ البداية أنه سيرفع الكلفة ويصعّب المسطرة ويفتح باب التمييز؟ أنت كنت رئيس لجنة منح وتجديد البطائق، والقرارات التي صدرت وخلقت هذا الجدل كله في السنتين الأخيرتين تحمل توقيعك ومسؤوليتك السياسية والأخلاقية.
وأزيدك: ما وقع معي كمدير نشر لـ”زون24” من رفض واضح لبطاقتي ليس أقل مما وقع للمهداوي. ومع ذلك، لا أسمع دفاعاً عني، ولا عن حسن المولوع، ولا عن عشرات الصحافيين الذين عانوا ظلماً في صمت. لماذا الدفاع عن حميد المهداوي وحده؟ هل لأن الصدام مع اللجنة اليوم صار رائجاً إعلامياً؟ أم لأن المرحلة الانتقالية فتحت الباب لتسجيل المواقف؟ أم لأن السياسة – وليس المهنة – هي التي تحرك البوصلة؟
إن كنتَ يا سي البقالي تبحث فعلاً عن الحقيقة وعن الإنصاف، فالحقيقة تبدأ بالاعتراف: الاعتراف بأن القرارات التي صُنعت في اللجنة خلال السنوات الماضية كانت مجحفة في حق مؤسسات إعلامية عديدة، وأن معايير منح البطاقة فقدت شفافيتها، وأن كثيراً من الصحافيين تمت معاملتهم بمنطق “الولاء” و”الموقف”، لا بمنطق احترام القانون.
أقولها لك بوضوح: إن كنت تريد الدفاع عن الحق، فابدأ من كل الحق، لا من نصفه. وإن أردت الدفاع عن الصحافيين، فادافع عنهم جميعاً، لا عن واحد بعينه. لأن الانتقاء في الدفاع يُفقد المعركة معناها ويحوّلها إلى “تصفية حسابات” لا علاقة لها بروح الصحافة ولا برسالة النقابة ولا بقيم النضال المهني التي كنتَ أنت أول من يرفعها في الماضي.
ثم دعني أصارحك أكثر: خرجتك الأخيرة لم تكن موفقة. كانت أقرب إلى محاولة لإنقاذ ماء وجهك السياسي قبل المهني. فالمهنة، للأسف، لم تعد جزءاً من الخطاب الذي ترفعه؛ أصبحت مجرد واجهة تبريرية. أما جوهر الصراع فهو سياسي بامتياز، وحساباته لا تخفى على أحد.
والحقيقة أن هذه اللحظة – بكل ما فيها من ارتباك وضجيج – كشفت شيئاً مهماً: أن المشهد الصحافي في المغرب يحتاج إلى إعادة بناء من الجذور، وأن من كانوا في مواقع القرار خلال السنوات الأخيرة لا يمكنهم تقديم أنفسهم اليوم كمنقذين أو حماة للمهنة. لا يمكن لمن صنع جزءاً من الأزمة أن يدّعي أنه يملك مفاتيح الحل. ولا يمكن لمن استفاد من مرحلة الاتساع أن يتحول فجأة إلى مناضل حين ضاق الأفق.
السي عبد الله البقالي، نحن لا نحتاج اليوم إلى خُرجات إعلامية ولا إلى تبريرات ولا إلى رسائل ملتبسة. ما نحتاجه هو وضوح. والوضوح يبدأ بالقول: نعم، حدثت اختلالات. نعم، كانت هناك قرارات جائرة. نعم، تم حرمان مؤسسات من حقوقها. نعم، تم خلق شروط تعجيزية. نعم، لعبت السياسة دورها. ونعم… أنت كنت جزءاً من هذه البنية، شئت أم أبيت.
قد تعتقد أن الخروج من اللجنة هو نهاية القصة. لكنه ليس كذلك. لأن الذاكرة المهنية لا تمحى بسهولة، ولأن التاريخ لا يُكتب بالتصريحات اللاحقة بل بالمواقف في لحظتها. أما وقد خرجت الآن، فهذا شأنك. لكننا – كصحافيين – من حقنا أن نسألك وأن نذكّرك وأن نقول لك بكل وضوح:
البقالي ليس ملاكاً.
وفي هذا السياق، فإن كل محاولة لتلميع صورة سياسية أو مهنية بعد فوات الأوان تبقى مجرّد محاولة لترميم جدار تصدّع من الداخل. المهنة تحتاج لنقد ذاتي، لا لخطاب أخلاقي انتقائي. تحتاج لرجال يواجهون الحقيقة كاملة، لا نصف الحقيقة.
عموماً، سي البقالي، خرجتك لم تكن موفقة… وربما لم تأتِ في الوقت المناسب ولا بالشكل المناسب.


