وجهات نظر

محمد كريم يكتب: “تازة” و”غزة” ماشي “تازة” قبل “غزة” مرة أخرى

اذا كان ما يدعو له البعض من ضرورة الالتزام بموقف “الحياد” بخصوص ما يقع في غزة يجسد من حيث معناه الدرجة الصفر من الوعي بالمقتسم والمشترك والكوني والانساني، الخ، على اعتبار اعتقاد البعض بعدم جدوى تبني موقف ايجابي رافض ومستهجن للهيمنة والغطرسة والمذابح و التنكيل والتهجير والتصفية، فإن الدعوة لالتزام اللمبالاة ووضع مسافة بيننا وبين ما يقع في غزة، استجابة لمقولة “تازة” قبل “غزة”، تجسد، في حالة اذا ما تمت إساءة الظن، الخسة والدناءة والسخافة والحقارة.

بعض دعاة التيئيس والتبئيس وصلابة الوجه والتجرد من مشاعر الانتماء بشكل خاص، ومن المشاعر الانسانية والآدمية بشكل عام، لا يترددون في هذا السياق في اجترار معزوفة “تازة” قبل “غزة” لإيهامنا ان الواقعية الدولية من حيث مراعاة المصالح واستحضار منطق “رابح-خاسر”، تملي علينا الانشغال بما يعنينا، ومن ثم الاقرار بأن أهل “غزة” أدرى ب”أنفاقها”، كما أهل “تازة” أدرى ب”مناجمها” . وللتدليل أكثر على “صحة” هذه المهاترة، يوظف هذا البعض ترهات من نوع “حماس مجرد تنظيم يتاجر في القضية الفلسطينية”، “مشعل وابناؤه يعيشون في البذخ والنعيم”، “هنية يخاطبكم من قطر”، “المغرب، كدولة عريقة ملتزم باتفاقية التطبيع”، “هناك مليون إسرائيلي من أصول مغربية”، الخ.
اولا، موقفنا من الآلام الفلسطينية تمليه طبيعة القضية والتزامنا التاريخي بها، وبالتالي لا يتوقف على سلوك وممارسات الاشخاص. الاشخاص الى زوال والقضية موسومة بالدوام؛
ثانيا، مقولة “تازة” قبل “غزة”، التي امتطى البعض “صهوتها” بشكل “ملاّطي” (بدون سرج) وبدون لجام، تكون ذات معنى حينما تعطى الأولوية لتلميع صورة البلد عبر إيلاء الاهمية للعلاقات الخارجية، في حين يتم مقابل ذلك تغييب وتجاهل الوضع الداخلي. وبمعنى آخر، تجاهل المحدد الداخلي مسقط لا محالة في فخ “آش خاصك العريان..”؛
ثالثا، الترويج لأهمية “الاعتراف الإسرائيلي” بمغربية الصحراء مجرد خواء يوظف عن قصد أو غير قصد، لزرع عقدة “الذنب” قصد قبول التواطؤ المغلف في ثوب “الاعتراف بالجميل” لصرف الاهتمام عن جرائم بني صهيون، والحال أننا كمغاربة لم ننتظر إعادة ترسيم “التطبيع” لإدراك أن الصحراء مغربية. فضمان مغربية الصحراء رهين بإيمان المغاربة بقضيتهم الوطنية الاولى وبقوة وصلابة الجبهة الداخلية وتلاحمها. وكما حررنا طرفاية وسيدي افني والصحراء، سيأتي اليوم الذي نكون فيه جاهزين لتحرير ما تبقى من الأراضي المغربية المحتلة، وكل شيء بأجل. وبالتالي، لن يزايد علينا أحد من خلال تحدينا للانشغال بتحرير مليلية وسبتة عوض الانشغال بمتاعب ومآسي وصداع غزة. وقد اتبثت المسيرات المليونية، المساندة لأهل غزة والرافضة للاحتلال والتنكيل، زيف مقولة “تازة” قبل “غزة”. وبقدر ما وقف المغاربة وقفة رجل واحد، لما ضرب الزلزال بعض اقاليمنا في الجنوب هذه المرة، وفي الشمال من قبل، صدحوا كذلك، وبصوت عالي، طيلة الأسابيع الماضية: ” كلنا فلسطينيون” و”لا للتطبيع”، و”نعم لإغلاق المكتب”!؛
رابعا، علاقتنا بالقضية الفلسطينية ليست علاقة مصالح آنية، أي علاقة صادرات وواردات و تبادل “خبرات”، الخ، بل هي علاقة عميقة تسمو على الاعتبارات الميركانتيلية لانها تمتد عبر الزمن إلى قرون وتجسد انخراط الأجداد والآباء ضد الاحتلال والاستيطان والتطهير العرقي منذ الحروب الصليبية، مجسدة في رمزية “باب المغاربة” ورئاسة لجنة القدس واعتبار القضية الفلسطينية، على مستوى اعلى سلطة في البلاد، بمثابة قضيتنا الوطنية الأولى كذلك، اضافة لوجود عشرات العائلات الفلسطينية المفتخرة و المتمسكة بأصولها المغربية منذ تلبية نداء صلاح الدين الأيوبي. ومن ثم فهي علاقة تاريخ ووجدان وانصهار، اختلط فيها الدم المغربي بالدم الفلسطيني. وبالتالي، فعراقة وأصالة بلدنا هي التي تحول دون أن تغرينا بنود اتقاقية أو معاهدة دولية عابرة لننقض عهد الائتمان على فلسطين وعلى مقدساتها. والعهد أولى بالمعاهدات؛
خامسا، وجود مئات الآلاف من اليهود من أصول مغربية في إسرائيل لا يعني أننا من باب “تمغرابيت” مجبرون على مناصرتهم، ظالمين أو مظلومين. ومن جهة أخرى، انتماء هؤلاء للّحمة المغربية يفرض عليهم أكثر من أي وقت مضى رفض الاستيطان، ومن ثم التفكير بشكل جدي في العودة لبلدهم الأم، وعليه إدراك انه لم يعد من طائل لتبرير بقائهم هناك وانخراطهم في جرائم التقتيل، علما ان “تمغرابيت” مناهضة للهمجية وترعوانيت ورافضة للظلم والعدوان، وعلى عكس ذلك مرادفة للنخوة والكرامة و الشموخ والاعتدال، وعلما كذلك أن مئات الآلاف من اليهود في سائر المعمور، بشكل خاص وملايين الأحرار في العالم، بشكل عام، يرفضون تمادي الاحتلال والاستيطان في الاستقواء بالنار والحديد من أجل كسر شوكة المقاومة وحركة التحرير.
لذا، فواهم من يعتقد ان أهل فلسطين سيغادرون هذه المرة حاملين متاعهم و مطأطئين رؤوسهم، كما حدث خلال النكبة. التركيبة النفسية والتعليمية والفكرية ودرجة الوعي لدى اهل فلسطين جعلتهم اكثر من اي وقت مضى متشبتون بالارض وبتحريرها، أحب من أحب وكره من كره.

محمد كريم
استاذ التعليم العالي، كلية العلوم القانونية والسياسية – سطات